فصل: تفسير الآيات (51- 60):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (51- 60):

{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)}
وقوله سبحانه: {ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} يحتمل أنْ يكون معناه: وقلنا يا أيها الرسلُ، وقالت فرقة: الخطاب بقوله: {ياأيها الرسل} للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
قال * ع *: والوجه في هذا أَنْ يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وخرج بهذه الصيغة، لِيُفْهَمَ وجيزاً أَنَّ المقالة قد خُوطِبَ بها كُلُّ نبيٍّ، أو هي طريقتُهم التي ينبغي لهم الكونُ عليها؛ كما تقول لعالم: يا علماءٌ إنَّكُم أَئمَّةٌ يُقْتَدَى بكم؛ فتمسكوا بعلمكم، وقال الطبريُّ: الخطاب لعيسَى عليه السلام.
قلت: والصحيح في تأويل الآية: أَنَّه أمر للمُرْسَلِينَ كما هو نَصٌّ صريح في الحديث الصحيح؛ فلا معنى للتردد في ذلك وقد روى مسلم والترمذيُّ عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللّهَ طَيِّب وَلاَ يَقْبَلُ إلاَّ طَيِّباً، وَإنَّ اللّهَ أَمَرَ المُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المُرْسَلِينَ، فَقَالَ: {ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: الآية51]. وقال: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رزقناكم} [البقرة: 172]. ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَر، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حرامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وغُذِّيَ بِالْحَرَامِ؛ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!» اه.
وقوله تعالى: {وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحدة وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون * فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}، وهذه الآية تُقَوَّى أَنَّ قوله تعالى: {ياأيها الرسل كُلُواْ} إنَّما هو مخاطبة لجميعهم، وأَنَّه بتقدير حضورهم، وإذا قُدِّرَتْ: {ياأيها الرسل} مخاطبةً للنبي صلى الله عليه وسلم قَلِقَ اتصالُ هذه واتصال وقولِهِ: {فَتَقَطَّعُواْ}، ومعنى الأُمَّةِ هنا: المِلّةُ والشريعة، والإِشارة بهذه إلى الحنيفية السمحة مِلَّةِ إبراهيم عليه السلام، وهو دين الإِسلام.
وقوله سبحانه: {فَتَقَطَّعُوا} يريد الأمم، أي: افترقوا، وليس بفعل مُطَاوِعٍ؛ كما تقول: تقطع الثوبُ؛ بل هو فعل مُتَعَدٍّ بمعنى قطعوا، وقرأ نافع: {زُبُراً} جمع زبور، وهذه القراءة تحتمل معنيين.
أحدهما: أَنَّ الأممَ تنازعت كتباً مُنَزَّلَةً فَاتَّبَعَتْ فرقة الصُّحُفَ، وفرقة التوراة، وفرقة الإنجِيلَ، ثم حَرَّفَ الكُلُّ وَبَدَّلَ، وهذا قول قتادة والثاني: أنَّهم تنازعوا أمرهم كتباً وضعوها وضلالةً ألَّفُوها؛ قاله ابن زيد، وقرأ أبو عمرو بخلاف: {زُبَراً} بضم الزاي وفتح الباء، ومعناها: فرقاً كزبر الحديد، ومن حيث كان ذكرُ الأمم في هذه الآية مثالاً لقريش خاطب اللّه سبحانه نَبِيَّه محمداً صلى الله عليه وسلم في شأنهم مُتَّصلاً بقوله: {فَذَرْهُمْ} أي: فذِرْ هؤلاء الذين هم بمنزلة مَنْ تقدم، والغمرة: ما عَمَّهُمْ من ضلالهم وفُعِلَ بهم فعلَ الماء الغمر بما حصل فيه، والخيراتُ هنا نَعِمُ الدنيا.
وقوله سبحانه: {والذين يُؤْتُونَ مَا ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ...} الآية: أسند الطبريُّ عن عائشة أنها قالت: «قلتُ: يا رسولَ اللّه، قوله تعالى: {يُؤْتُونَ مَا آتَوا} أَهي في الذي يَزْنِي وَيَسْرِقُ؟ قال: لا، يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، بَلْ هِيَ في الرَّجُلِ يَصُومُ وَيَتَصَدَّقُ وَقَلْبُهُ وَجِلٌ، يَخَافُ أَلاَّ يُتَقَبَّلَ مِنْهُ»
قال * ع *: ولا نظرَ مع الحديث، والوَجَلُ: نحو الاشفاق والخوف، وصورة هذا الوَجِلِ إمَّا المُخَلِّطُ؛ فينبغي أنْ يكونَ أبداً تحت خوف من أنْ يكونَ ينفذ عليه الوعيد بتخليطه، وإمَّا التَّقِيُّ أوِ التائب، فخوفه أمرَ الخاتمة وما يطلع عليه بعد الموتِ، وفي قوله تعالى: {أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ راجعون}: تنبيهٌ على الخاتمة، وقال الحسن: معناه الذين يفعلون ما يفعلون من البِرِّ، ويخافون أَلاَّ يُنْجِيَهُم ذلك من عذاب رَبِّهِم، وهذه عبارة حسنة، ورُوِيَ عن الحَسَنِ أيضاً أَنَّهُ قال: المؤمن يجمع إحساناً وشفقةً، والمنافِقُ يجمع إساءَةً وأمناً.
قلت: ولهذا الخَطْبِ العظيم أطال الأولياءُ في هذه الدار حُزْنَهُمْ وأجروا على الوجنات مدامعهم.
قال ابن المبارك في رقائقه: أخبرنا سفيان قال: إنما الحُزْنُ على قَدْرِ البصيرة.
قال ابن المبارك: وأخبرنا مالك بن مغول عن رجل عن الحسن قال: ما عُبِدَ اللّهُ بمثل طُولِ الحُزْنِ، وقال ابن المبارك أيضاً: أخبرنا مسعر عن عبد الأعلى التَّيْمِيِّ قال: أَنَّ مَنْ أُوتي من العلم ما لا يُبْكِيهِ لَخَلِيقٌ أَلاَّ يكونَ أُوتِيَ علماً ينفعه؛ لأَنَّ اللّه تعالى نَعَتَ العلماءَ فقال: {إنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ} إلى قوله: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ} [الإسراء: 107-109]، انتهى.

.تفسير الآيات (61- 65):

{أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65)}
وقوله سبحانه: {أولئك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} أي: إليها سابقون، وهذا قول بعضهم في قوله: {لها}، وقالت فرقةٌ: معناه وهم من أَجْلِها سابقون، وقال الطبريُّ عنِ ابن عباس: المعنى: سبقتْ لهم السعادَةُ في الأَزَلِ؛ فهم لها، وَرَجَّحَهُ الطبريُّ بأنَّ اللام متمكنة في المعنى.
وقوله سبحانه: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بالحق} أظهر ما قيل فيه أنَّه أراد كتابَ إحصاءِ الأعمال الذي ترفعه الملائكة، وقيل: الإشارة إلى القرآن، والأول أظهر.
وقوله سبحانه: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هذا} اخْتُلِفَ في الإشارة بقوله: {مِّنْ هذا} هل هي: إلى القرآن، أو إلى كتاب الإحصاءِ، أو إلى الدِّينِ بجملته، أو إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ} أي: من الفساد {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ}: في الحال والاستقبالِ والمُتْرَفُ: المُنَعَّمُ في الدُّنيا، الذي هو منها في سَرَفٍ، و{يَجْأَرُونَ} معناه: يستغيثون بصياح كصياح البقر، وكَثُرَ استعمال الجُؤَار في البَشَرِ؛ ومنه قول الأعشى: [المتقارب]
يُرَاوِحُ مِنْ صَلَوَاتِ المَلِيك ** طَوْراً سُجُوداً وَطَوْراً جُؤَارَا

وقال *ص*: جأر الرجل إلى اللّه تعالى، أي: تَضَرَّعَ؛ قاله الحُوفِيُّ، انتهى وذهب مجاهد وغيره إلى أَنَّ هذا العذابَ المذكورَ هو الوعيدُ بيوم بَدْرٍ، وقيل: غيرُ هذا.
وقوله سبحانه: {لاَ تَجْأَرُواْ اليوم} أي: يقال لهم يوم العذاب: لا تجأروا اليوم.

.تفسير الآيات (66- 76):

{قَدْ كَانَتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آَبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)}
وقوله: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ} يعني القرآن و{تَنكِصُونَ} معناه: ترجعون وراءَكُم، وهذه استعارة للإعراض والإدبار عن الحَقِّ و{مُسْتَكْبِرِينَ} حال والضمير في {بِهِ}: عائد على الحَرَم والمسجد وإنْ لم يَتَقَدَّمْ له ذكر؛ لشهرته، والمعنى: إنكم تعتقدون في نفوسكم أَنَّ لكم بالمسجد الحرام أعظَم الحقوق على الناسِ والمنزلةَ عند اللَّه، فأنتم تستكبرون لذلك، وليس الاستكبار من الحق.
وقالت فرقة: الضمير عائد على القرآن والمعنى: يُحْدِثُ لكم سماعُ آياتي كبراً وطغياناً، وهذا قولٌ جَيِّدٌ، وذكر منذر ابن سعيد: أن الضمير للنبي صلى الله عليه وسلم وهو مُتَعَلِّقٌ بما بعده، كأن الكلام تَمَّ في قوله: {مُسْتَكْبِرِينَ} ثم قال: بمحمد عليه السلام سامراً تهجرون، و{سَامِراً} حال، وهو مفرد بمعنى الجمع؛ يقال: قوم سُمَّرٌ وسَمَرةٌ وسَامِرٌ، ومعناهُ: سُهَّرُ الليل مأخوذ من السَّمَرِ وهو ما يقع على الأشخاص من ضوء القمر، وكانت العرب تجلس للسمر تتحدث وهذا أَوْجَبَ معرفَتها بالنجوم؛ لأَنَّها تجلس في الصحراء فترى الطوالِعَ من الغوارب، وقرأ أبو رجاء: {سُمَاراً} وقرأ ابن عباس وغيره: {سمرا} وكانت قريش تَسْمُرَ حول الكعبة في أباطيلها وكفرها، وقرأ السبعة غيرَ نافع: {تَهْجُرُونَ}: بفتح التاء وضم الجيم؛ قال ابن عباس معناه: تهجرون الحَقَّ وذِكْرَ اللَّه، وتقطعونه؛ من الهجران المعروف، وقال ابن زيد: هو من هجر المريض: إذا هذى، أي: تقولون اللغوَ من القول؛ وقاله أبو حاتم، وقرأ نافع وحده: {تُهْجِرونَ}: بضم التاء وكسر الجيم وهي قراءة أهل المدينة، ومعناه: تقولون الفُحْشَ والهجر من القول، وهذه إشارة إلى سَبِّهِمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ قال ابن عباس أيضاً وغيره، ثم وبخهم سبحانه بقوله: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ القول} لأنهم بعد التدبر والنظر الفاسد قال بعضهم: شِعْرٌ، وبعضهم: سِحْرٌ وغير ذلك، أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأوَّلين أي: ليس بِبِدْعٍ بل قد جاء آباءهم الأَوَّلِينَ، وهم سالف الأمم الرُّسُلُ؛ كنوح، وإبراهيم، وإسماعيلَ وغيرهم، وفي هذا التأويل من التَّجَوُّزِ أَنَّ جَعْلَ سالف الأمم، آباء؛ إذِ الناس في الجملة آخِرُهم من أَوَّلِهِم.
{أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ} المعنى: ألم يعرفوا صدقه وأمانته مدَّةَ عمره صلى الله عليه وسلم.
وقوله سبحانه: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ}.
قال ابن جريج، وأبو صالح: الحقُّ: اللَّه تعالى.
قال * ع *: وهذا ليس من نَمَطِ الآية، وقال غيرهما: الحق هنا: الصواب والمستقيم.
قال * ع *: وهذا هو الأحرى، ويستقيمُ على هذا فسادُ السمواتِ والأرض ومَنْ فيهن لو كان بحكم هوى هؤلاءِ؛ وذلك أَنَّهُم جعلوا للَّه شركاءَ وأولاداً، ولو كان هذا حَقّاً لم تكن للَّه عز وجل الصفاتُ العِلَيَّةُ، ولو لم تكن له سبحانه لم تكن الصَّنْعَةُ، ولا القُدْرَةُ كما هي، وكان ذلك فسادُ السمواتِ والأرض ومَنْ فيهن:
{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].
وقوله سبحانه: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} قال ابن عباس: بوعظهم، ويحتمل: بشرفهم، وهو مَرْويٌّ.
{أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً} الخَرْجُ والخراج بمعنًى، وهو: المال الذي يُجْبَى ويؤتى به لأوقات محدودة.
وقوله سبحانه: {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} يريد ثوابَهُ، ويحتمل أن يريد بخراج ربك: رِزْقَه، ويُؤَيِّدُهُ قوله: {وَهُوَ خَيْرُ الرازقين}.
والصراط المستقيم دين الإسلام، وناكبون: أَي: مجادلون ومُعْرِضُون، وقال البخاريُّ: {لَنَاكِبُونَ}: لعادلون، انتهى.
قال أبو حيان: يقال: نكب عن الطريقِ ونَكَّبَ بالتشديد، أي: عَدَلَ عنه، انتهى، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم لو زال عنهم القَحْطُ، ومَنَّ اللَّه عليهم بالخصب، ورَحِمَهُم بذلك لبقوا على كفرهم ولَجُّوا في طغيانهم، وهذه الآية نزلت في المُدَّةِ التي أصاب فيها قريشاً السِّنُونَ الجَدْبَةُ والجُوعُ الذي دعا به النبيُّ صلى الله عليه وسلم في قوله: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِيُ يُوسُفَ»، الحديث.
{وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب}، قال ابن عباس وغيره: هو الجوعُ والجَدْبُ حَتَّى أكلوا الجلود وما جرى مجراها، ورُوِيَ أَنَّهم لما بلغهم الجَهْدُ رَكِبَ أبو سفيانُ، وجاءَ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقال: يا محمد، ألستَ تزعمُ أَنَّك بُعِثْتَ رحمةً للعالمين؟ قال: بلى، قَالَ: قَدْ قَتَلْتَ الآباءَ بِالسَّيْفِ، واْلأَبْنَاءَ بِالْجُوعِ، وَقَدْ أكلنا العِلْهِز؛ فنزلت الآية، و{استكانوا} معناه: تواضعوا وانخفضوا.

.تفسير الآيات (77- 83):

{حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)}
وقوله سبحانه: {حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ...} الآية تَوُعُّدُ بعذاب غير مُعَيَّنٍ، وهذا هو الصواب، وهذه المَجَاعَةُ إنَّما كانت بعد وقعة بدر، والمُبْلِسُ الذي قد نزل به شَرٌّ وَيئِسَ من زواله ونَسُخِهِ بخير، ثم ابتدأ تعالى بتعديد نِعَمٍ في نفس تعديدها استدلالٌ بها على عِظَمِ قدرته سبحانه، فقال: {وَهُوَ الذي أَنْشَأَ لَكُمُ السمع والأبصار...} الآية أنشأ بمعنى: اخترع، والأفئدة: القلوبُ، وذرأ: بَثَّ وخلق.
وقوله: {بَل} إضرابٌ، والجَحْدُ قبله مُقَدَّر كأنه قال: ليس لهم نظر في هذه الآيات أو نحو هذا، و{الأولون}: يشير به إلى الأُمَمِ الكافرة: كعاد وثمود.
وقوله تعالى: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَءابَاؤُنَا هذا مِن قَبْلُ...} الآية قولهم: {وَءَابَاؤُنَا} إنْ حُكِيَ المقالة عن العرب فمرادُهُم مَنْ سَلَفَ من العالم، جعلوهم آباءَ من حيث النوعُ واحدٌ، وكونهم سلفاً، وفيه تَجُوزٌ، وإنْ حُكِيَ ذلك عن الأَوَّلِينَ فالأَمر مستقيم فيهم.

.تفسير الآيات (84- 91):

{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)}
وقوله سبحانه: {قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السموات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أَمَر اللَّه تعالى نَبِيَّهُ عليه السلام بتوقيفهم على هذه الأشياء التي لا يمكنهم إلاَّ الإقرارُ بها، ويلزم من الإقرار بها توحيدُ اللَّه وإذعانهم لشرعه ورسالة رسله، وقرأ الجميع في الأَوَّل: {للَّه} بلا خلاف، واخْتُلِفَ في الثاني والثالث، فقرأ أبو عمرو وحدَه: {اللَّه} جواباً على اللفظ، وقرأ باقي السبعة: {للَّه} جواباً على المعنى، كأنه قال في السؤال: لمن ملك السموات السبع؟
وقوله سبحانه: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} استعارة وتشبيه لما وقع منهم من التخليط وَوَضْعِ الأفعالِ والأَقوالِ غيرِ مواضعها ما يقع من المسحور؛ عَبَّرَ عنهم بذلك.
وقالتَ فرقة: {تُسْحَرُونَ} معناه: تمنعون، وحكى بعضهم ذلك لُغَةً، والإجارة: المنع، والمعنى: أَنَّ اللَّه تعالى إذا أراد منع أحد فلا يقدر عليه، وإذا أراد أخذَه فلا مانِعَ له.
وقوله سبحانه: {وإِنَّهُم لَكَاذِبُونَ} أي: فيما ذكروه من الصاحبة، والولد، والشريك، تعالى اللَّه عن قولهم عُلُوّاً كبيراً، وفي قوله سبحانه: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إله} الآية.
دليلُ التمانع وهذا هو الفسادُ الذي تَضَمَّنَهُ قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].
والجزءُ المُخْتَرَعُ مُحَالٌ أَنْ تَتَعَلَّقَ به قدرتان فصاعداً، وقد تقدم الكلامُ على هذا الدليل؛ فَأَغنى عن إعادته.
وقوله: {إِذاً} جوابٌ لمحذوف تقديره: لو كان معه إله إذاً لذهب.